چوديث بَتلر تكتب عن العنف وإدانة العنف، ترجمة عبده موسى البرماوي[1]
[نشر هذا المقال في العدد 20 من مجلة لندن للكتب، أكتوبر 2023. وهو مذيل بتاريخ 13 أكتوبر 2023، أي قبل قصف مدرسة المعمدانية في غزة. انظر:
Judith Butler, “The Compass of Mourning: violence and the condemnation of violence”, London Review of Books, Vol. 45, No. 20 (19 October 2023)].
إن الموضوعات التي يعوزها مجال للنقاش العام، والتي تدفعنا بشدة للجدل حولها، هي ذاتها التي يصعب تناولها ضمن الأطر المتاحة لنا الآن. ورغما عن رغبة المرء في الولوج المباشر إلى المسألة المطروحة أمامنا الآن، فإنه يصطدم بحدود ذلك الإطار، إذ تجعل من المستحيل تقريبا التصريح بما يجب على المرء قوله. يهمني أن أتكلم عن العنف، العنف الحالي، وعن تاريخ له، بأشكاله المتعددة. إلا أن رغبة المرء في توثيق العنف، أي فهم القصف الهائل والقتل الذي شنته حماس في إسرائيل، كجزء من ذلك التاريخ، قد تصمه بأنه يختلق "نسبية"[2] (relativising) أو "تضمينا سياقيا"[3] (contextualisation). إما أن ندين أو أن نوافق، وهذا يبدو معقولاً، لكن أهذا غاية المطلوب منا أخلاقيا؟ أنا في الواقع أدين دون تحفظ العنف الذي ارتكبته حماس. لقد كانت هذه مذبحة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز. كان هذا رد فعلي الأساسي، ولا زال بحاله دون تغير. لكن تظل هناك ردود فعل أخرى.
الناس، في عجلة، يطلبون منك تحديد مع أي "جانب" تقف؛ والجلي، أن الإدانة القاطعة هي الرد الوحيد المتاح على عمليات قتل كهذه. لكن ما الذي يدفع بنا أحيانا إلى تصور أن الإدانة الأخلاقية القوية سيعرقلها السؤال عما إذا كنا نستخدم اللغة الصحيحة أو امتلاك فهم معتبر للوضع التاريخي؟ هل حقا يعد سؤالنا عما ندينه على وجه التحديد من قبيل اختلاق النسبية؟ وسؤالنا عن مدى تلك الإدانة؟ وهل ثمة طريقة أفضل لوصف المكون السياسي، أو الكيانات، التي نعارضها؟ سيبدو مستغربا إن عارضنا أمرا قبل أن نتمكن من فهمه واستيفاء وصفه. وعلى نحو أخص، سيكون مستغربا أكثر أن نعتقد أن تعطيل الفهم شرط للإدانة، خشية أن يقوض سعينا إلى المعرفة قدرتنا على الحكم، وتصور أنها ستعمل في خدمة اختلاق النسبية. وماذا لو كان اللازم أخلاقيا أن نمد إدانتنا حتى تشمل جرائم مروعة، من ذلك النوع الذي لا تمل وسائل الإعلام من الدفع به لواجهة المشهد؟ متى وأين تبدأ إدانتنا ومتى وأين تنتهي؟ ألسنا بحاجة إلى أن نطرح تقييما نقديا ومستنيرا للوضع، وأن نرفقه بتلك الإدانة الأخلاقية والسياسية؟ وأن نقوم بذلك دونما خشية من أن معرفةً كهذه قد تجعلنا في نظر البعض ساقطين أخلاقيا بل ومتواطئين في تلك الجرائم البشعة؟
هناك من يستخدم تاريخ العنف الإسرائيلي في المنطقة لتبرئة حماس، لكن كي يحقق هؤلاء غايتهم، يوظفون صورة فاسدة من التفكير الأخلاقي. لنكن واضحين: العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين عنف ساحق: فهم يقصفون بلا هوادة، قتل للناس جميع الأعمار، في منازلهم وعلى قارعة الطرق، فضلا عما ترتكبه إسرائيل من تعذيب في سجونها، وما تفرضه من تقنيات التجويع في غزة، ونزعهم ملكية المنازل من أصحابها. هذا العنف، بأشكاله المتعددة، إنما يوجه ضد شعب أُخضع لقواعد الفصل العنصري والحكم الاستعماري والحرمان من الجنسية.
وبالرغم عن هذا، حين تصدر "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين" بيانا تدعي فيه أن "نظام الفصل العنصري هو الوحيد الذي يُلام" في وقوع الهجمات القاتلة التي شنتها حماس على أهداف إسرائيلية، فإن هذه اللجنة ترتكب خطأً. ليس من الصائب أن تُوزع المسؤولية على هذا النحو، وما من مبرر يعفي حماس من المسؤولية عن عمليات القتل البشعة التي ارتكبتها. في الوقت نفسه، لا تستحق هذه اللجنة وأعضاؤها أن يدرجوا على القوائم السوداء أو أن يهددوا. وهم بالتأكيد محقون في إشارتهم إلى تاريخ العنف في المنطقة: "فالاستيلاء المنهجي على الأراضي، وتلك الغارات الجوية الروتينية، والاعتقالات التعسفية، وفرض نقاط التفتيش العسكرية، والفصل القسري بين العائلات، وحتى عمليات القتل المُستهدِف، أجبرت جميعها الفلسطينيين على العيش في حالة موت؛ موت بطيء وفجائي".
إنه وصف دقيق، وواجبنا أن نصرح بهذا في حقه، لكنه هذا الوصف لا يعني أن عنف حماس هو وحسب عنف إسرائيلي تحت مسمى آخر. جدير بنا بحق أن نطور شيئا من الفهم، يعلل كيفية اكتساب جماعات مثل حماس للقوة في ظل نقض وعود أوسلو و"حالة الموت البطيئة والمفاجئة" التي تصف حال وجود العديد من الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، والذين يعيشون تحت ظروف المراقبة المستمرة والتهديد بالاعتقال الإداري دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. هؤلاء يعانون جراء الحصار المشدد الذي يحرم سكان غزة من الدواء والغذاء والماء. ومع ذلك، لا ينتهي الحال بنا إلى اكتشاف مبرر أخلاقي أو سياسي لأعمال حماس من خلال الإشارة إلى تاريخها. وطالما طُلب منا فهم العنف الفلسطيني باعتباره استمرارا للعنف الإسرائيلي، وفق ما تطلب منا "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين"، فلن يبقى أمامنا سوى مصدر واحد للمسؤولية الأخلاقية، فيما سينزع عن الفلسطينيين أي مسئولية عن أعمال العنف التي ارتكبوها. هذا لا يبقي سبيلا للاعتراف باستقلالية العمل الفلسطيني. إن الإصرار على استخلاص فهم منفرد للعنف الشديد المتفشي الذي ترتكبه الدولة الإسرائيلية وتمييزه عن أي مبرر آخر للعنف هو أمر ضروري، وأساس للتفكير في السبل الأخرى المتاحة للفكاك من الحكم الاستعماري، ووقف الاعتقال التعسفي والتعذيب في السجون الإسرائيلية، ووضع حد للحصار المفروض على غزة، حيث يتم فرض شُح الماء والغذاء بيد تلك الدولة-الأمة nation-state التي تسيطر على حدودها.
بعبارة أخرى، سؤالنا الذي يهدف إلى معرفة أي عالم لا يزال متاحا لسكان تلك المنطقة إنما يتوقف على معرفة سبل إنهاء الحكم الاستعماري الاستيطاني. ولدى حماس إجابة واحدة عن هذا السؤال؛ إجابة مرعبة ومروعة! لكن ثمة إجابات أخرى عديدة. لكن طالما يُمنع أن نشير إلى "الاحتلال" (صار بعضا من’دنكفابوت’ Denkverbot ألماني معاصر)[4]، وطالما لم نتمكن من تنظيم النقاش حول ما إذا كان الحكم العسكري الإسرائيلي للمناطق المحتلة هو فصل عنصري أم استعمار، فلا مجال لأن نأمل في فهم الماضي أو الحاضر أو المستقبل. يتملك شعور شديد باليأس الكثيرين ممن يتابعون حمام الدم في وسائل الإعلام. لكن يبرز سببا بعينه لهذا اليأس، ويتمايز عن كل ما عداه، ألا وهو أنهم استقوا معرفتهم بالأحداث من وسائل الإعلام، وعاشوا داخل عالم حماسي مؤقت، حافل بغضب أخلاقي يائس. يجدر كي نتمكن من إرفاق الإدانة الأخلاقية بالرؤية الأخلاقية أن نسعى إلى تشكيل أخلاق سياسية مغايرة، وهذا الصنف من الأخلاق يتطلب تشكله فسحة من الوقت، وتبني سبل صبورة وشجاعة للتعلم والتمييز.
أنا أعارض العنف الذي مارسته حماس، ولا أجد عذرا لهم. وإذ أصرح بذلك، فإني أُجلي موقفا أخلاقيا وسياسيا. ولا أتلكأ حين أفكر مليا فيما قد تفترضه مسبقا تلك الإدانة وما قد تعنيه. وربما يرغب من يوافقني في هذه الإدانة في توجيه السؤال عما إذا كان إسناد الإدانة الأخلاقية بفهم لما ندينه أمرا ضروريا. قد يقول أحدهم: لا، لست بحاجة إلى معرفة أي شيء عن فلسطين أو حماس لكي أميز خطأ ما ارتكبوه، أو أدينه. لو توقف المرء عند هذا الحد، معتمدا على وسائل الإعلام المعاصرة، ولم يستفهم عن المعرفة ومدى صحتها وإفادتها، وهل تعينه على سرد التاريخ، فسيتقبل حالئذ بعض الجهل، وسيثق في الإطار المطروح عليه. على كلٍ، جميعنا مشغول، وليس بإمكان كل فرد منا أن يكون مؤرخا أو عالما في مجال الاجتماع. من هنا، ستعتبر تلك الطريقة طريقة ميسورة للتفكير والعيش، ويعيش أصحاب النوايا الحسنة بهذه الطريقة، لكن بأي كُلفة؟
تُرى إن لم نوقف غاية أخلاقنا وسياستنا عند توجيه الإدانة؟ وماذا لو تمسكنا بطرح السؤال عن شكل للحياة يحرر المنطقة من عنف كهذا؟ وإن قمنا بإدانة الجرائم الوحشية، فماذا عن رغبتنا في أن نخلق مستقبلا يزول عنه مثل هذا العنف؟
هذا طموح معياري يجاوز مجرد الإدانة اللحظية. وتحقيقه يقتضي أن نعرف تاريخ اللحظة الراهنة، وكيف كبرت حماس في سياق الدمار الذي لحق بلحظة ما بعد أوسلو، ونمت كجماعة مسلحة في نظر أهل غزة ممن لم توف لهم أبدا وعود الحكم الذاتي self-governance؛ وكيف تشكلت مجموعات أخرى من الفلسطينيين ممن يتبنون تكتيكات وأهداف أخرى؛ وأن نعرف تاريخ الشعب الفلسطيني وتطلعاته إلى الحرية والحق في تقرير المصير السياسي، والتحرر من الحكم الاستعماري والعنف العسكري والسجني الماثل. حالئذ، قد نكون جزءا من النضال لأجل فلسطين الحرة، ومن السعي لتفكيك حماس، أو استبدالها بجماعات ذات تطلعات للتعايش لا تقوم على العنف.
أما بالنسبة لأولئك الذين يقتصر موقفهم الأخلاقي على الإدانة وحدها، فإن فهم الموقف ليس غايتهم. وبالإمكان قول إن الغضب الأخلاقي من هذا الصنف غضب مُعادٍ للفكر ومقحمٌ كذلك (بإقحام معايير تقييم الحاضر في الحكم على الماضي). وعلى الرغم من ذلك، قد يدفع الغضب بالمرء إلى مطالعة كتب التاريخ ليعرف كيف تحدث مثل هذه الأحداث، وهل قد تنشأ ظروف من شأنها أن تنفي تصور العنف بوصفه الممكن الوحيد في المستقبل.
لا ينبغي النظر للأمر باعتبار "التضمين السياقي" فعلا إشكاليا من الوجهة الأخلاقية، حتى ولو بدا لنا أن البعض سيوظف أشكال التضمين السياقي لأجل حرف وجهة اللوم أو التبرئة. الجدير بالسؤال إن كان بمقدورنا التمييز بين هذين الشكلين من التضمين السياقي؟ ليس علينا أن نستسلم لادعاء البعض بأن جميع أشكال السياق عرضة للنسبية الأخلاقية لمجرد تصورهم أن وضعنا للعنف البشع في سياقه سيحرف النظر عن العنف أو سيبرره. وعندما تدعي "لجنة هارفارد للتضامن مع فلسطين" أن: "نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد" عن هجمات حماس، فهي بهذا تؤيد نسخة غير مقبولة من المساءلة الأخلاقية.
يجدر بنا تعلم بعض التاريخ لنستوعب ما حدث ولنعي معناه. أي علينا أن نوسع عدسة النظر لترى ما وراء اللحظة المروعة الحالية، والتي لا إنكار لرعبها، في وقت نرفض فيه السماح لهذا الرعب عينه أن يحل ممثلا عن كل الرعب الذي وجد في هذه الحالة، ولا أن نجعله مصدرنا الوحيد لتمييز صور الرعب جميعا، ومن ثم تمييز السبيل إلى مجابهتها.
لا تقدم وسائط الإعلام المعاصرة في معظمها تفصيلا للفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني على مدى عقود، وما حفلت به من تفجيرات وهجمات تعسفية واعتقالات وقتل. وإذا كان لأهوال الأيام الأخيرة أن تنال أهميةً أخلاقيةً أكبر عند وسائل الإعلام مقارنةً بأهوال السنوات السبعين الماضية، فإن الرد الأخلاقي [السائد إعلامياً] في الوقت الحالي يهدد بحجب فهمنا للمظالم الجذرية التي تحملتها فلسطين المحتلة والفلسطينيون المهجرون قسرا – ذلك فضلا عن الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح التي تشهدها في هذه اللحظة في غزة.
ثمة معقولية في خشية البعض من تضمين سياق العنف الذي ارتكبته حماس في تكوين منظورنا، لئلا يكون بابا لتبرئة حماس، أو صرف الانتباه عن فظاعة ما ارتكبته. لكن ماذا لو كان الرعب نفسه هو ما يقودنا إلى تضمين السياق؟ من أين يبدأ هذا الرعب وأين ينتهي؟ عندما تتحدث الصحافة عن "حرب" بين حماس وإسرائيل، فهي ترسم لنا إطارا لفهم الحال. وقد فهمت الصحافة، في واقع الأمر، الوضع مقدما. فهم أن غزة واقعة تحت الاحتلال، والإشارة إلى كونها "سجنا مفتوحا"، هو تأطير يستدعي تفسيرا مختلفا. يبدو الأمر في ظاهره مجرد وصف، لكن اللغة تقيد أو تسهل ما يمكننا قوله، وكيف يمكننا وصفه والاستنباط المعرفي منه. أجل، يمكن للغة أن تصف، لكنها فقط تكتسب القدرة على الوصف عند توافقها مع الحدود المفروضة على الكلام. إذا ما تقرر الاستغناء عن معرفة عدد الأطفال والمراهقين الفلسطينيين الذين قتلوا في الضفة الغربية وغزة هذا العام أو على مدى سنوات الاحتلال، واعتبرت هذه المعلومات غير ضرورية لمعرفة أو تقدير الموقف من الهجمات على إسرائيل وقتل الإسرائيليين، فإننا قد قررنا عدم حاجتنا لمعرفة تاريخ العنف، أو معرفة الحداد والغضب على نحو ما يعايشه الفلسطينيون. وقد قررنا في المقابل حاجتنا لأن نعرف تاريخ العنف والحداد والغضب بحسب ما يعيشه الإسرائيليون.
صديقة إسرائيلية، تعتبر نفسها "معادية للصهيونية"، كتبت على الإنترنت أنها قلقة بشكل كبير على عائلتها وأصدقائها، وبينت أنها فقدت معارف لها. والواجب أن تنفطر قلوبنا تعاطفا معها، وهو الحال الذي يعتري قلبي بالتأكيد، فما وقع أمر فظيع بما لا يمكن تبريره. ومع ذلك يطرح السؤال نفسه: أما من لحظة نتخيل فيها أن التجربة التي مرت به الصديقة وما فيها من الرعب والفقدان للأصدقاء والعائلة، هو ذاته ما قد يشعر به فلسطيني على الجانب الآخر، أو قد شعر به على مدى سنوات من القصف والسجن والعنف العسكري؟ أقول هذا وأنا يهودية أيضا، عاشت مع صدمة عابرة للأجيال، سببتها فظائع قد ارتكبت ضد أشخاص مثلي. لكنها ارتكبت أيضا ضد أشخاص ليسوا مثلي. المرء ليس مضطرا إلى التماهي مع هذا الشخص أو ذاك الاسم حتى يمكنه أن يسمي الفظائع باسمها. عن نفسي، على الأقل، اجتهد لئلا أقع في ذلك.
ولكن في النهاية، مكمن الإشكال ليس في فشل التماهي الشعوري وحسب؛ فتلك الصورة من استشعار ألم الآخرين تتشكل ملامحها بشكل أساسي ضمن إطار يسمح بتحقق هذا التماهي، وبتناقل المعنى ما بين تجربة شخص آخر وتجربتي. لو اعتبر التأطير الخطابي المهيمن بعض الأرواح تستأهل أن تحزننا أكثر من غيرها، فمعنى هذا أن حزمة بعينها من الخسائر تفزعنا أكثر من غيرها. السؤال: أرواح من هي التي تستأهل حزننا؟ يشكل جزءا أساسيا من سؤالنا عن أي أرواح نوليها قيمة؟ ومن هنا تدلف العنصرية بحسم. إذا كان الفلسطينيون "حيوانات"، كما يصر وزير الدفاع الإسرائيلي على وصفهم، وإذا كان الإسرائيليون يمثلون الآن "الشعب اليهودي" كما يصر بايدن على وصفهم (وقد جعل الشتات اليهودي يتلخص في إسرائيل، وفق ما يطالب به الرجعيون reactionaries)، فبالتالي سيصبح الإسرائيليون هم الوحيدون الذين يستأهلون حزننا دون غيرهم، والوحيدون الذين نقدمهم بوصفهم مؤهلين لأن يثيروا فينا هذا الشعور بالحزن. ذلك وفق مشهد "الحرب" الذي يقاتل على مسرحه شعب يهودي حيوانات تسعى إلى قتله. بالتأكيد، ليست هذه المرة الأولى التي يصف فيها المستعمر مجموعة ساعية إلى التحرر من أغلاله بالحيوانات. لكن هل سيعد الإسرائيليون "حيوانات" لو ارتكبوا جرم القتل؟ هذا التأطير العنصري للعنف المعاصر إنما يلخص التضاد الاستعماري، ما بين "المتحضرين" وبين "الحيوانات" التي يجب نزع شأفتها أو تدميرها حتى تستمر "الحضارة". وإذا تبنينا مثل هذا الإطار لدى إعلان معارضتنا الأخلاقية، فسنجد أنفسنا متهمين بشكل من أشكال العنصرية. شكل يمتد إلى ما هو أبعد من نطقنا لعبارات الرفض، إذ يتغلغل في بنية الحياة اليومية في فلسطين. لهذا، فإن التعويض الجذري radical reparation أمر وجوبي[5].
وإذا اعتقدنا بضرورة جعل الإدانة الأخلاقية عملا واضحا ودقيقا، ودون استناد لأي سياق أو معرفة، فإننا نقبل بلا قيد تلك الشروط التي يتم بموجبها صياغة الإدانة، وكذا نقبل بالمسرح الذي يتم فيه تدبيج البدائل. وفي سياقنا الراهن، يعني قبول هذه المصطلحات أن نقبل كذلك ما تتضمنه من أشكال العنصرية الاستعمارية، وهي بمثابة جزء لا يتجزأ من المشكلة الهيكلية التي يتعين حلها، وأن نقبل معهم بعضا من الظلم المستديم abiding injustice بعدما كان علينا اجتيازه. من ثم، لا يجدر أن نغض الطرف عن تاريخ الظلم باسم التيقن الأخلاقي moral certitude، وإلا سنقع في مزيد من هذا الظلم. وتيقننا هذا ربما يتعثر في مرحلة لاحقة على تلك الأرضية الرخوة المفتقرة إلى الصلابة. لماذا لا نستطيع إدانة أعمال شنيعة من الوجهة الأخلاقية دون هدر قدرتنا على التفكير والمعرفة والحكم؟ بالتأكيد نستطيع، بل القيام بهما معا واجب علينا.
إن أعمال العنف التي نشهدها في وسائل الإعلام مروعة. وعند هذه الذروة من الاهتمام الإعلامي، فإن العنف الذي نراه هو العنف الوحيد الذي نعرفه. وأكرر: نحن محقون في شجب ذلك العنف والإعراب عن رعبنا. لقد ألم بي لعدة أيام مرض أصاب معدتي. يعيش كل من أعرفهم في خوف مما ستفعله الآلة العسكرية الإسرائيلية تاليا، وما إذا كانت خطابة الإبادة التي قدمها نتنياهو ستتجسد في شكل القتل الجماعي للفلسطينيين. إني أسأل نفسي عما إذا كان بإمكاننا الحداد بالحزن، دون شروط، على تلك الأرواح التي فُقدت في إسرائيل وكذا تلك التي فقدت في غزة، بغير أن تغرقنا نقاشات النسبية والتكافؤ. لعل بوصلة الحداد الرحبة تلك أن تخدم مثلا أعلى وأكثر جوهرية، وهو المساواة، واستنادا إليه يكون الاعتراف بالحق المتساوي للأرواح في أن تلقَ منا الحزن والحداد. به يستعر غضبنا من فقدان أرواح ما كان لها أن تهدر؛ موتى كانوا يستحقون حياة مديدة واعترافا متكافئا بقيمة حيواتهم. وبأي حال، أنّى لنا في غيبة المعرفة أن نتخيل مثل هذه المساواة بين الأرواح في المستقبل؟ فبحسب ما وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فإن القوات الإسرائيلية والمستوطنين قد قتلوا في الضفة الغربية وغزة في الفترة ما بين 2008 ولحظة ما قبل الأعمال الحالية ما يقارب 3800 مدنيا فلسطينيا؛ فأين حداد العالم عليهم؟ وبالفعل مات مئات الأطفال الفلسطينيين منذ بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية "الانتقامية" ضد حماس، وسيموت عدد أكبر مع استمرار هذا الحال عبر الأيام والأسابيع القادمة.
لا يهدد تشّكل مواقفنا الأخلاقية تخصيص بعض الوقت لسبر تاريخ العنف الاستعماري ودراسة اللغة والسرديات وحتى تلك الأطر التي تعمل الآن لنقل الأخبار والتفسيرات، والتي تأول مسبقا ما يحدث في هذه المنطقة. ثمة أثر بالغ لهذا النوع من المعرفة، وهو أثر لا يمنح المسوغات للعنف القائم أو يسمح بالمزيد منه. إنما هدف المعرفة أن تعين على تشكيل فهم للوضع يتمتع بمصداقية أعلى، ولمدى أبعد من الذي يوفره تأطير مستند إلى الحاضر وحده، ومحظور الجدال فيه. ربما بالطبع توجد مواقف أخرى للمعارضة الأخلاقية تنضاف إلى المواقف التي قبلناها بالفعل، بما في ذلك معارضة العنف العسكري وعنف الشرطة الذي يطغى على حياة الفلسطينيين في المنطقة، ويسلبهم ما يستحقونه من حق في الحداد، وحق في أن يعرفوا غضبهم ويعبرون عنه، كما يمنع تضامنهم الجمعي، وسعيهم لشق طريقهم نحو مستقبل حر.
شخصيا أدافع عن سياسات اللاعنف، مع علمي بأنها لا تعمل كمبدأ مطلق، وأنها تطبيقها يحتاج ظروفا ملائمة. أرى في نضالات التحرير التي تنتهج اللاعنف ما يمكن من إقامة مستقبل خال من العنف، كعالم نود جميعا أن نعيش فيه. في الآن ذاته، أنا أشجب العنف بشكل لا لبس فيه. وأنا، مثل كثيرين غيري، أود أن أكون جزءا من تخيل مساواة وعدالة حقيقين، ومن النضال لأجل تحققهما في المنطقة. أتطلع لمساواة وعدالة من النوع الذي يجبر جماعات مثل حماس على الزوال، ويدفع لإنهاء الاحتلال، والذي تزدهر فيه أشكال جديدة من الحرية السياسية والعدالة. إن مضينا هكذا بغير مساواة وعدالة، وبلا الحد من عنف بعينه تمارسه دولة، هي إسرائيل، وقد تأسست هي نفسها على العنف، فما من مستقبل بالإمكان تخيله، وما من مستقبل لسلام حقيقي – ليس على غرار ذلك "السلام" الذي يُعنونون به التطبيع، والذي لا يعدو أن يكون انتحالا، قوامه عدم المساواة وغمط الحقوق وفرض العنصرية. لن يتحقق هذا المستقبل الذي ننشده دون حريتنا في تسمية ووصف ومعارضة جميع أعمال العنف، بما في ذلك عنف الدولة الإسرائيلية بجميع أشكاله، ودون قيامنا بذلك ونحن في حلٍ من الخوف من الرقابة ومن التجريم ومن الاتهام الخبيث بمعاداة السامية. إن العالم الذي أريده عالم يعارض التطبيع مع الحكم الاستعماري ويدعم تقرير المصير والحرية للفلسطينيين؛ عالم إن أحلناه واقعا فسنحقق التطلعات الملحة التي ينشدها سكان تلك الأراضي جميعهم؛ تطلعات العيش سويا بحرية وبغير العنف، والتمتع بالمساواة والعدالة. قد يبدو هذا الأمل بالنسبة للكثيرين أملا ساذجا، أو ربما مستحيلا. لكن، وبالرغم من هذا، يظل على نفر منا أن يستمسك بهذا الأمل أشد ما يكون التمسك، وأن ينفض عن رأسه الاعتقاد بأن تلك الهياكل الموجودة الآن ستبقى موجودة للأبد. وههنا، نحن في مسيس الحاجة إلى شعرائنا وحالمينا، والحمقى الجامحين، من ذلك النوع الذي يعرف كيف ينظم حركته.
هوامش:
[1]: الباحث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. أشكر الدكتور سامر القرنشاوي من جامعة أكسفورد على تفضله بمراجعة هذه الترجمة.
[2]: المقصود هو تنسيب فعل العنف لفعل عنف آخر.
[3]: المقصود هو إقحام عوامل ومحددات نابعة من السياق لدى تكوين الموقف الأخلاقي.
[4]: تعني مفردة Denkverbot الألمانية مُحرّم فكري أو موضوع لا يجوز التفكير فيه.
[5]: ربما تعني بالتعويض الجذري أن يعوض أصحاب الموقف الأخلاقي الذي يتبني ذلك التأطير العنصري عنا المظالم التي تقع على من يتأثرون بتمدد تلك العنصرية لمعاشهم وتعميقها لمظلمتهم.